علي البخيت يكتب .. الخدمة المدنية في السودان أمام تحديات الذكاء الاصطناعي والحكومة التقنية

بقلم : علي صلاح البخيت
تواجه الخدمة المدنية في السودان اليوم لحظة تحول حاسمة اذ إذ لم تعد التحديات تقتصر على تحسين الأداء الإداري أو ضبط التوظيف، بل أصبحت مرتبطة بتحول أوسع يشهده العالم نحو الذكاء الاصطناعي والحكومات التقنية، وهو ما يفرض ضرورة إعادة هيكلة شاملة للجهاز الإداري، وتطوير آليات التوظيف والتخطيط المهني، بما يتناسب مع متطلبات العصر الرقمي.
في ظل تصاعد استخدام التكنولوجيا في تسيير شؤون الدولة، أصبح من الضروري أن تُحدث الخدمة المدنية قفزة نوعية، تبدأ من رقمنة العمليات الإدارية، وتمر بإعادة صياغة معايير التوظيف، لتستوعب الكفاءات الرقمية، ولا تنتهي إلا ببناء كوادر قادرة على التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وفهم آليات اتخاذ القرار المعتمدة على البيانات و لم تعد المؤهلات الأكاديمية التقليدية كافية، بل باتت المهارات الرقمية، وتحليل البيانات، والقدرة على التعامل مع البرمجيات والنظم الذكية، متطلبات أساسية لأي وظيفة حكومية حديثة.
إن النظر في التخصصات المطلوبة للدولة يجب أن يكون أكثر دقة وواقعية، إذ لم يعد مجديًا تخريج آلاف من حملة الشهادات في تخصصات لا تجد موضعًا في سوق العمل الحكومي. المطلوب اليوم هو مواءمة بين احتياجات الدولة الحقيقية، ومتغيرات العصر، ومخرجات مؤسسات التعليم العالي. هذا يتطلب إنشاء وحدة وطنية متخصصة لرصد التخصصات المطلوبة مستقبلًا، وتوجيه السياسات التعليمية نحو تلبية تلك الحاجات.
أما البرنامج الوظيفي داخل مؤسسات الدولة، فقد آن له أن يتحول من نموذج جامد يعتمد على الأقدمية، إلى مسار مهني ذكي يعتمد على الأداء، واكتساب المهارات، والقدرة على التطور وعلى الموظف الحكومي في المرحلة القادمة أن يكون متعلماً باستمرار، قادراً على إعادة تأهيل نفسه، ومواكباً للتطورات التقنية والإدارية. كما يجب أن توفر له الدولة بيئة عمل رقمية، وتدريبًا منتظمًا، وأنظمة تقييم قائمة على الكفاءة، لا المحسوبية أو الرتابة الإدارية.
وتزداد أهمية هذا التحول في ظل الحاجة إلى مواكبة التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي حتى في اتخاذ القرارات الحكومية نفسها. فلم يعد القرار الإداري مجرد اجتهاد فردي، بل بات من الضروري أن يُبنى على تحليل علمي للبيانات، ونماذج تنبؤية، وخوارزميات تساعد في تقديم الخيارات الأفضل. من هنا، تصبح مواءمة القرار الإداري مع أدوات الذكاء الاصطناعي مطلبًا حتميًا، لتحقيق كفاءة أعلى في السياسات العامة، وتوجيه الموارد بشكل أكثر فعالية.
وجود خدمة مدنية قائمة على المعرفة، والابتكار، والتقنية، هي وحدها القادرة على بناء دولة حديثة تستجيب لتحديات العصر. أما التباطؤ في هذا الاتجاه، فليس إلا استمرارًا في إنتاج العجز، وتعميق الفجوة بين المواطن ومؤسسات الدولة، في وقت لم يعد فيه التغيير خيارًا، بل ضرورة وجود.