الحلقة الثالثة – الأولويات العاجلة: من أين تبدأ الحكومة المدنية؟
الحلقة الثالثة – الأولويات العاجلة: من أين تبدأ الحكومة المدنية؟

إذا كنا جادين في بناء حكومة مدنية في السودان، فعلينا أن نبدأ من الأرض، من الواقع الذي وصفناه في الحلقة السابقة، لا من الخيال السياسي أو الأمنيات الحزبية.
أي حكومة مدنية تدخل في هذا المشهد يجب أن تفهم أنها لا تستلم دولة، بل تستلم أرض محروقة، مفخخة بالغضب والسلاح والجوع والخذلان. وبالتالي، أولوياتها العاجلة ليست الدستور ولا الانتخابات، بل إنقاذ ما تبقّى من الدولة والمجتمع.
وهذه هي الخطوات التي لا يمكن تجاوزها:
1. وقف الحرب فورًا:
أول وأهم قرار يجب أن تتبناه أي حكومة قادمة هو وقف الحرب. ليس عبر مؤتمرات أو شعارات، بل عبر:
مفاوضات مباشرة وشجاعة مع القوى المتحاربة بشروط الجيش بتجمع المليشيات في نقاط وحلها .
بضمانات محلية وإقليمية حقيقية، وليست واجهات شكلية.
إشراك المجتمعات المتضررة في المفاوضات، لا فقط النخب.
الحرب هي الحاجز الأول أمام أي إصلاح، وكل دقيقة تستمر فيها تُفقد الدولة عشرات الأرواح ومزيدًا من شرعيتها.
2. تأمين حياة الناس (ممرات إنسانية):
الناس في مناطق النزاع يعيشون بلا غذاء، بلا ماء، بلا علاج.
أولوية الحكومة يجب أن تكون:
فتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية.
إعادة تشغيل المستشفيات والمدارس حيث أمكن.
تأمين الخدمات الأساسية بطرق واقعية، حتى لو مؤقتة أو بدعم من منظمات دولية.
3. استعادة الحد الأدنى من مؤسسات الدولة:
الوزارات، النيابات، الشرطة، المحاكم… كلها في حالة شلل.
يجب على الحكومة أن:
تشكّل فرق طوارئ مدنية محايدة لإعادة تشغيل هذه المؤسسات بأقل الإمكانيات.
تقوم بفرز الكفاءات من داخل الخدمة المدنية، بعيدًا عن المحاصصة أو الولاءات.
4. ضبط الخطاب الإعلامي وتهدئة النفوس:
الخطاب الإعلامي حاليًا يزيد النار اشتعالاً. المطلوب:
فرض ميثاق شرف إعلامي مؤقت يمنع التحريض والكراهية.
دعم إعلام وطني يدعو للسلم والوحدة.
محاربة الشائعات التي تهدم الثقة في أي تحرك مدني.
5. إعادة الاعتبار لهيبة الدولة (بلا قمع):
الناس فقدت الإحساس بوجود دولة مسؤولة. أولويات المرحلة:
فرض سيطرة مدنية على قوات الأمن تدريجيًا.
ضبط الحركات أو احتواؤها ضمن آليات وطنية.
إرسال رسالة واضحة للمجتمع أن هناك من يحكم، لكن لا يبطش.
6. تشكيل حكومة مصغّرة وفعالة:
الحكومة القادمة يجب أن تكون:
محدودة العدد، واضحة المهام، خالية من المحاصصة.
كل وزير فيها يجب أن يعمل كقائد ميداني، لا سياسي تنفيذي.
يُمنع ازدواج الوظائف والتكسب السياسي.
الخلاصة:
أولويات الحكومة المدنية في السودان ليست نظريات دستورية، بل عمليات إسعاف عاجلة لدولة تنزف.
المطلوب الآن ليس شعارات، بل رجال ونساء يعرفون كيف يعملون في الفوضى وينقذون ما يمكن إنقاذه، ثم بعدها يبدأ الحديث عن الدستور والانتخابات والتنمية.
المرحلة دي محتاجة شجاعة، سرعة، وقرارات حاسمة.
وإذا ضاعت أول 100 يوم، فقدنا البوصلة من البداية.